الأرض كروية أم مسطّحة؟ بين الحقيقة العلمية ونظريات المؤامرة


 منذ فجر الحضارات، شكّلت الأسئلة الكونية الكبرى محور اهتمام الإنسان، ومن بينها شكل الأرض. هل هي كروية كما تقول العلوم الحديثة، أم مسطّحة كما يظنّ البعض حتى يومنا هذا؟ قد يبدو السؤال محسومًا لدى كثيرين، لكنه في الواقع ما يزال يثير جدلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث ظهرت جماعات تدعو إلى إعادة النظر في “حقيقة” شكل الأرض.


هذا المقال يستعرض جذور هذا الجدل، الأدلة العلمية والتاريخية، وأسباب تشبّث البعض بفكرة الأرض المسطّحة.





الجذور التاريخية للفكرة



في الحضارات القديمة، مثل حضارة بلاد الرافدين ومصر القديمة، كان الاعتقاد السائد أن الأرض مسطّحة ومحاطة بالمياه. وفي اليونان، ظهرت فرضيات مبكرة عن شكل الأرض، لكن الفيلسوف اليوناني أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد قدّم أدلة أولية على كروية الأرض، مثل انحناء ظلّ الأرض على القمر أثناء الخسوف.


لاحقًا، جاء إراتوستينس الذي قام بتجربة عبقرية لقياس محيط الأرض باستخدام عصا وظلّ الشمس فقط، ما دلّ على وعي مبكر بشكل كروي واضح.





الدليل العلمي على كروية الأرض



رغم أن البعض يشكّك في البراهين المعاصرة، إلا أن العلم الحديث أثبت شكل الأرض بطرق لا تُحصى:



1. 

صور الأقمار الصناعية والفضاء



منذ أول رحلة للفضاء في منتصف القرن العشرين، بثّت وكالات الفضاء مثل “ناسا” و”روسكوسموس” صورًا واضحة تُظهر الأرض كجسم كروي أزرق. يرفض مناصرو الأرض المسطّحة هذه الصور على أنها “مفبركة”، لكن كثرتها وتنوّع مصادرها يقوّض هذا الزعم.



2. 

انحناء الأفق



كلما ارتفعنا عن سطح البحر، بدأنا نلاحظ انحناءا بسيطا للأفق. الطيارون وروّاد الفضاء يشاهدون هذا الانحناء بوضوح. كما أن السفن التي تبتعد عن الشاطئ تختفي تدريجيًا من الأسفل للأعلى، في دليل مباشر على أنّ السطح منحنٍ لا مسطّح.



3. 

قانون الجاذبية



لو كانت الأرض مسطّحة، لتوزعت الجاذبية بطريقة غير متجانسة، ولشعر الإنسان بانجذاب نحو المركز فقط. لكن قوة الجاذبية متساوية تقريبًا في كل النقاط على سطح الأرض، ما يعني أنها جسم كروي ضخم يوجّه الجاذبية نحو مركز واحد.





لماذا لا تسقط المياه من الكوكب الكروي؟



من أكثر الأسئلة التي يطرحها أصحاب النظرية المسطّحة: “إن كانت الأرض كروية، فلماذا لا تسقط المياه؟”

الإجابة ببساطة: الجاذبية الأرضية، التي تعمل على جذب كل شيء نحو مركز الأرض، مما يجعل البحار والمحيطات تلتصق بالسطح، بغضّ النظر عن اتجاه الحركة أو دوران الكوكب.





دور الرحلات حول العالم



الرحّالة البرتغالي ماجلان قاد أول رحلة بحرية تطوف حول الأرض في القرن السادس عشر. لو كانت الأرض مسطّحة، لاستحال العودة إلى نقطة البداية دون “السقوط من الحافة”. هذه الرحلات العملية كانت دليلًا تاريخيًا على كروية الأرض.





نظرية الأرض المسطّحة… لماذا لا تختفي؟



رغم كل الأدلة، تعود نظرية الأرض المسطّحة للظهور من حين لآخر. فما السبب؟



1. 

فقدان الثقة في المؤسسات



هناك من يظن أنّ وكالات الفضاء والحكومات تتآمر لإخفاء “الحقيقة”. هذا الشك المتنامي في السلطة جعل بعض الناس يرفضون حتى أوضح الحقائق العلمية.



2. 

سحر البساطة



النظرية المسطّحة تقدم تفسيرًا بسيطًا وساذجًا للعالم: أرض مسطّحة، شمس تدور فوقها، وقبة سماوية. هذا التصوّر يريح العقل من التعقيد العلمي.



3. 

وسائل التواصل الاجتماعي



المنصات الإلكترونية سمحت بانتشار المعلومات الخاطئة دون أي رقابة علمية. وعندما يجد الشخص مجموعة تؤكّد معتقده، يشعر بالانتماء، فيتشبّث بفكرته حتى دون أدلة.





هل من حجج علمية للأرض المسطّحة؟



الحقيقة أن معظم ما تقدّمه هذه النظرية يعتمد على سوء فهم الفيزياء والبصريات. من أشهر مزاعمهم:


  • “الأرض لو كانت كروية، لرأينا الانحناء بوضوح”: لكن حجم الأرض هائل، ولا يظهر الانحناء بالعين المجرّدة إلا من ارتفاعات شاهقة.
  • “الأنهار تجري أفقيًا، فكيف تنحني؟”: الماء يتبع انحناء الأرض دون أن نلحظ ذلك نتيجة الجاذبية.



كل هذه الحجج سقطت أمام الحسابات الرياضية والتجارب العلمية.





العلم ليس رأيًا شخصيًا



شكل الأرض ليس موضوعًا فلسفيًا مفتوحًا للرأي. إنه حقيقة علمية قابلة للقياس والملاحظة والتجربة. كما أن كروية الأرض لا تعارض الدين؛ فقد أشار القرآن إلى “تكوير الليل على النهار” وهي لفظة تعني اللفّ والدوران.





الخاتمة: بين الحقيقة والوهم



في النهاية، الجدل حول شكل الأرض ليس علميًا بقدر ما هو نفسي وفكري. العلم قطع شوطًا طويلًا في فهم الكون، بينما تصرّ بعض العقول على البقاء في ظلال الماضي.

الأرض ليست مسطّحة، وهذه ليست “رواية رسمية”، بل حقيقة راسخة تؤكّدها الفيزياء، الفلك، الرحلات، الصور، والملاحظة بالعين.


الجدير بالذكر أن طرح الأسئلة أمر صحي، لكن إنكار الحقائق بعد إثباتها يشكّل تراجعًا خطيرًا في فهم الإنسان لذاته ومكانه في الكون.


أحدث أقدم